دولة علي بابا
      في تشريح سلطة الفساد والمحاصصة في العراق
(2)
                        نشوء وارتقاء دولة علي بابا
يوم 4 تشرين الاول  2009 كنت اشارك في لقاء ضيق دعت اليها وزارة الحوار الوطني العراقية اطلقت عليه اسم “الملتقى الفكري الأول للُخَب العراقية” للبحث في اشكاليات تعثر المصالحة الوطنية.كنت وصلت الى بغداد مبكراً مما اتاح لي فرصة اللقاء بالعديد من الاقارب والاصدقاء والناس والاستماع الى افكارهم وارائهم بخصوص الاوضاع بعد مرور ست سنوات على الغزو الامريكي واربع سنوات على تشكيل حكومة عراقية جاءت بانتخابات وصفت بانها حرة ونزيهة.محصلة الاحاديث والمشاهدات العيانية التي قمت بها قبيل الندوة جاءت مطابقة للمعلومات التي كانت متداولة والتي تعكس خيبة أمل بالنتائج المتحققة منذ الاحتلال ويئسا من امكانية حصول اي تقدم على صعيد اعادة بناء الدولة والمجتمع بعد تدميرهما نتيجة للغزو وللاحتلال.
كان اكثر ما لفت انتباهي هو حديث الناس عن الفساد المتغول في كل زاوية من زوايا الدولة ولدى الطبقة السياسية المهيمنة، وهو ما اثار ذكرياتي عن العديد من اركان تلك الفئة من السياسيين وماضيهم الملوث بالفساد ايام ما يحلوا لهم ان يسموها معارضتهم لنظام صدام حسين.في احدى مداخلاتي في الملتقى وفي حضور قيادات من اغلبية الاحزاب المشاركة في الحكم ومن بينها علي الاديب وهمام حمودي وغيرهم تحدثت عن الفساد المستشري باعتباره المعوق الاساس لاعادة البناء وللعملية السياسية واتمام المصالحة ووصفت الدولة التي يديرونها بانها “دولة علي بابا”.
كنت انتويت ان اطلقها صرخة مدوية في وجوههم فلم اجد تعبيراً غير “دولة علي بابا” يليق بوصف ما آلت اليه الامور في العراق على ايديهم من فساد ومحسوبية وشللية وهيمنة طغمة صغيرة من الفاشلين والعاجزين وعديمي الكفاءة ومفتقدي الخبرة على الحكم وعلى الساحة السياسية في “العراق الجديد”.كما اردت ان اثير من خلال ذلك الوصف الرمزي في دواخلهم صدمة قلت لعلها تفيقهم من غيهم وتنبهمم الى ان ذلك السلوك المزري والخائب الذي ينتهجونه سينتهي لا بفشل العملية السياسية وانما الى تدمير الدولة وانقراضها.
والحقيقة لم يكن تعبير “دولة علي بابا” من ابتكاراتي فقد سمعت من عراقيين كثيرين اثناء تلك الزيارة وقبلها عن قصص يرونها عن “الفرهود” الذي صاحب بدء الغزو في نيسان 2003 وخاصة في بغداد وكيف ان الجنود الامريكان كانوا ينادون على العراقيين بـ”يالا علي بابا” وهم يحرضونهم على اقتحام المنشئات والمعسكرات والدوائر والمصانع والبنوك وغيرها من مؤسسات الدولة التي كان يجري نهبها ويحثونهم على الاجهازعلى ما تبقى فيها من ممتلكات.من يعود الى ما كتبته الصحافة الغربية انذاك سيجد ان تقاريرها جاءت مطابقة لشهادات العراقيين حيث حفلت بالكثير من الاشارات الى “علي بابا” على لسان الجنود الامريكان والبريطانيين مصحوبة بتعليقات حافلة بالازدراء والاحتقار للصوص المغارة الذين وقفوا يتفرجون عليهم وكأنهم امام مشهد من مشاهد افلام ديزني ولد.
كانت فكرة “علي بابا” كما هي متجذرة في المخيال الغربي وفي الذهنية الاستشراقية احدى عناصر المشروع الامريكي لاحتلال العراق ومطبخه الاديولوجي لاشاعة وترسيخ مفهوم الاستحلال.ولعل خير من عبر عن ذلك هو وزير دفاع الغزو واحد ابرز عرابيه ومهندسيه، “دونالد رامسفيلد”، حين صرح ردا على الانتقادات التي وجهت للقوات الامريكة بانها وقفت متفرجة امام استباحة تلك المؤسسات وخاصة المتحف العراقي بان عمليات السلب والنهب كانت “مجرد رد فعل طبيعي ومتوقع على سنوات القهرالتي عاشها العراقيون تحت حكم صدام.”
وبالرغم مما يخطر على البال بان حكاية “علي بابا والاربعين حرامي”  هي من بين حكايات “الف ليلة وليلة”، اي من التراث العربي او الاسلامي، الا ان الحقيقة هي انها من ابداعات الاستشراق الغربي حيث تعزى الى  المستشرق والمترجم الفرنسي “انطوان غالان” الذي يعتقد على نطاق واسع انه اضاف حكاية “مغارة علي بابا” ومرجانة مع الاربعين حرامي الى الليالي في القرن الثامن عشر بعد ان سمعها اثناء زيارة له الى حلب.
المهم في الامر ان تلك الحكاية الاسطورية التي تنطوي في سرديتها الروائية على مغزى ورسالة في تذميم الطمع وحب المال والخداع والخيانة لم ينظر اليها في الغرب فقط على انها من روايات المغامرات المسلية للاطفال التي تحولت الى عدد لا يحصى من  الافلام والمسرحيات وانما اصبحت جزءاً من تراث الاستشراق الذي ينظر من خلاله الغرب الى العالم العربي باعتباره لا يزال قريب العهد بماضيه حتى لو كان ذلك الماضي هو مجرد فولكلور وحكايات ما قبل النوم للاطفال.
وبغض النظر عن شعارات تحرير العراق وادعاءات بناء نظام نموذجي في الشرق الاوسط ونشر الديمقراطية فيها فمن وجهة نظر امريكا كان العراقيون الذين احتلتهم هم من سلالات ابطال حكايات “الف ليلة وليلة” ولم تكن بلادهم الا “مغارة علي بابا” وبالتالي لم يكن امامها الا ان تعيد انتاج ذلك الفولكلور، لا لكي يقف جنودها يتسلون به هذه المرة، بل لتشهد به تدمير العراق من خلال النموذج الذي صنعته: دولة فاشلة، فساد متجذر، قيادة عاجزة وادارة متعثرة.
ان مفهوم او فلسلفة “دولة علي بابا” ليست هنا مجرد تلك الرغبة اللصوصية المتحكمة بطريقة ادارة الدولة، بل هي في نهج الحكم بكل ما يحمله من سياسات ومعاني متضمنة وسلوكيات وتوائهما الشرطي مع تطبيقاتها في القضايا والانشطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقيم الاخلاقية التي تزرعها في المجتمع.ان اسؤ تجليات “دولة علي بابا” اضافة الى الفساد الذي غرسته هو نظام المحاصصة الذي قامت عليه والصراع الطائفي الذي اخرجته من قمقمها والذي ولد الارهاب الذي حصد مئات الالاف من ارواح العراقيين.
لم تنهض امريكا بهذا المنهج التخريبي لوحدها ولكن لسؤ الحظ ازرها فيه عراقيون تفانوا في لعب دور الاربعين حرامي منذ اللحظة الاولى للاحتلال الذي كان كريما معهم ليس في تسهيل لعبة ادعاء تمثيل المقاومة الوطنية لنظام صدام وانما في تسليمهم السلطة عبر ما سمي بمجلس الحكم والذي مكنهم من وضع يدهم على كامل الدولة لاحقا.ان اول ما قام به هؤلاء وحتى قبل ان يلفظ نظام صدام انفاسه هو استيلائهم على قصوره وقصورازلامه ثم الكثير من ممتلكات ومؤسسات الدولة وبذلك ضربوا مثالاً للآخرين في الشروع باكبرعملية منظمة لنهب وتدمير دولة في العصر الحديث.
وفي الوقت الذي بقي الجنود الامريكان يتمتعون بمشاهد حية وحقيقية لنسخة جديدة، ولكن غير هوليوودية، من افلام “علي بابا”  فان العراقيين الذي كانوا يشاهدون ذلك بحزن وألم وحيرة نحتوا اسما اخرا هو “الحواسم” رديفاً ساخراً لما انتهت اليه الحرب المدمرة التي خيضت باسمهم من نهب منظم لثروات بلدهم ومهانة سيتحملون عبئها لاجيال عديدة جراء انتهاك حقوقهم وكرامتهم الانسانية من خلال ممارسات الفساد الذي يتعرضون لها يوميا على يد حكامهم الجدد.
ليس بالامكان تحديد حجم هذا الفساد الناتج عن مآثر “دولة علي بابا” بالقيمة الدفترية بشكل دقيق  فتلك مهمة غدت مستحيلة لاسباب على رأسها اتساع الممارسات افقيا وعموديا ونطاق السرية المضروب حولها وعمليات التضليل التي تحيط بها.وحتى مؤشر الفساد العالمي الذي تصدره مؤسسة الشفافية الدولية والذي لا يزال يضع العراق منذ عام 2004 في موقع متقدم كواحد من اكثر البلدان فسادا في العالم لا يوفر معطيات عن الرقم الحقيقي لحجم الفساد في العراق ولا حتى مجمل صورة تقريبية له ربما بسبب الاطار الضيق للمؤشرات التي وضعتها.
ومع ذلك فان ما يتوفر من معطيات يكشف عن حالة فريدة وصفها متخصصون دوليون بانها اكبر فضيحة فساد في التاريخ الانساني.امريكيا، تقول الارقام المنشورة ان 360 طنا من الدولارات قد ارسلت في رزم بلاستيكة الى ادارة الاحتلال ربما تتراوح قيمتها 60- 80 مليار دولار قد انفقت اثناء سنوات الغزو الاولى على مشاريع اغلبها وهمية في العراق في حين ان حوالي 10 مليار دولار منها اختفت تماما ولم يتم العثور على اية مستندات تثبت طرق انفاقها.
اما عراقيا، فان الموارد المتحققة من بيع النفط بشكل رسمي قد تتجاوز 500 مليار دولار خلال السنوات التي اعقبت الاحتلال، عدا البيوعات غير الرسمية الناتجة عن التهريب والسرقة والاستثمارات النفطية غير الخاضعة للحكومة، كما في اقليم كردستان.وبسبب عدم وجود ارقام رسمية معتمدة فان من الصعب ضبط كم الفساد الناشئ عن كل هذه المصادر التي تمثل الحجم الاكبر لعمليات نهب الثروة الوطينة.ولا يمكن باي حال من الاحوال تحديد حجم الفساد المالي والاداري بشكل دقيق ايضا لاسباب عديدة الا ان التقديرات المبنية على اساس عمليات غسل الاموال التي تغادر الى الخارج استنادا الى حجم مبيعات الدولار عبر نظام المناقصات التي يجريها البنك المركزي تصل الى 40 مليار دولار سنويا.
اما حجم الفساد في القطاعات الاخرى كالمقاولات والعمولات والاختلاسات والرشاوي والسرقات فتبلغ حسب بعض التقديرات حوالي 18 مليار دولار سنويا.
غير ان تقريراً نشرته مؤسسة (ويلث اكس) وهي شبكة مخابراتية خاصة تتبع الحسابات المصرفية والاموال الشخصية والعائلية في العالم في شهر ايلول 2013 كشف ان العراق احتل المرتبة السادسة ضمن قائمتها للأثرياء في منطقة الشرق الأوسط للعام 2013 بمجموع ثروات تبلغ 15 مليار دولار تعود الى 175 ثريا عراقيا متخطين الرقم السابق لعام 2012 وهو 160 ثريا  بثروة تقدر ب 13 مليار دولار.
الا ان هذا التقرير رغم انه يقدم صورة عن تصاعد وتيرة تكوين الثروات المشكوك في اصولها في العراق بشكل سريع وخلال فترة قصيرة قد لا يكون مؤشراً دقيقا عن حجم الفساد الحقيقي لانه لا يتضمن كل الثروات والاموال غير المنقولة داخل العراق وخارجه وكذلك الاموال التي تم تبيضها في مشاريع مشتركة او المسجلة باسماء لا تحمل الجنسية العراقية.
ان صعوبة الحصول على معطيات حقيقية عن حجم الفساد والطلاسم التي تحيط بصوره المختلفة وابطاله والغموض المتعمد الذي يحيط  بهذه الممارسات والشبكات العنكبوتية المرتبطة تضيف مكملاً لمفهوم “دولة علي بابا” وتوفر دليلاً جديداً على تسيد آليات عمل المغارة الاسطورية وعالم الجريمة وقيم اللصوصية وثقافتها ومظاهرها من فضائح وصراعات وازمات وعنف وفوضى.
ويبقى السؤال من هم الاربعين حرامي في “دولة علي بابا” الذين يمتلكون امبراطورية الفساد هذه ويشتركون في ادارتها.انهم بالتأكيد كبارالمسؤولين في السلطة وفي قيادات الاحزاب المشاركة فيها مع اولادهم واقربائهم يعاونهم فيها كوادرعليا تضم وكلاء وزارات ومدراء عامين وقادة امنين وقضاة وسفراء ودبلوماسين يشكلون كلهم شبكة من الشركاء تضم مقاولين ورجال اعمال واصحاب محطات تلفزيونية واعلاميين يتعاونون معا في اقتسام كعكة الفساد المهولة.
في الحلقة القادمة سنستعرض جذور التفكير الامريكي وراء اقامة هذه الدولة السرطانية من خلال تمكين الفاسدين والفاشلين وعديمي الكفاءة في ادارتها مما مهد الطريق لاكبر كارثة وطنية وانسانية حلت على العراق في عصره الحديث.
*

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *