صفوة القول (21)
                                                           
                                                           مختارات من اراء وقضايا

سجالات الثقافة العراقية بين ذهنية الاحتراب ونداء وطن محاصر
صلاح النصراوي

الحياة في 25 مايو 2000

يحتدم السجال منذ فترة بشأن واقع الثقافة العراقية المعاصرة، التي تعاني شأنها شأن الحال العراقية برمتها، من ضنك حصارات بعضها ناتج من حصاد تجربة سياسية واجتماعية واقتصادية خائبة ومريرة وصلت الى حدود التدمير الذاتي، وبعضها عن عملية التدمير المنظم متعددة الأبعاد التي فرضتها أسوار الفصل العنصري المحيطة بالعراق تحت راية عقوبات الأمم المتحدة وبعضها الآخر ناتج من حصار المنافي الضيقة والنائية.
 هذا السجال يستعر الآن بين طرفين أفرزتهما تلكم الحصارات، احدهما يدعي تمثيله للثقافة العراقية، مستمداً دعواه من صموده داخل تلك الأسوار وأمام افرازات الصراع ببعديه الداخلي والخارجي، وانخراطه في معركة الوجود المادي والثقافي على أرض الوطن، بينما يعلن الطرف الآخر من منافيه البعيدة عن مشروعيته التي صاغتها معاناة مغامرة البحث الدائم عن الحرية ومقاومة سياسات القمع والاكراه وتشبثه في دوره الرائد وحقه في المشاركة الفاعلة في تجديد واعادة تأسيس الثقافة العراقية على أساس مشروع وطني ونهضوي.
 وكما هي العادة المدمرة التي رسختها التجارب السياسية الخائبة وذهنية الاحتراب القبلي والانتقام التي افرزتها فان المناظرات القائمة حول راهن ومستقبل الثقافة العراقية امتدت لكي يكيل طرف من اصحابها الى آخر الاتهامات التي راوحت بين الخيانة والجبن والصمت ازاء المعاناة الوطنية والوصاية كما يراها بعض مثقفي الداخل الذين عبروا عن آرائهم في هذا الحوار، وبين الاتهامات بالخيانة أيضاً والعمل الاستخباراتي وممالأة السلطة والتدجيل والتطبيل وحرق البخور لها على حساب الضمير الاخلاقي والالتزام بقضايا الوطن الكبرى والمصيرية، كما أعلن عنها بعض مثقفي المنفى.
هناك بالتأكيد أبعاد كثيرة مغفلة في هذا الحوار الدائر على صفحات الجرائد العراقية والعربية. فالواقع العراقي بقدر ما هو كارثي، بالمعنى الحقيقي للكلمة، فإنه أيضاً ملتبس ومضطرب، ذلك أن الدلالات المتوافرة لا تشير الى إمكان تغير ايجابي كبير يمكن أن يحصل قريباً لينتشل الوطن العراقي من محنته ويزيل من أمامه عوائق النهوض من رماد الحصارات ويعيد وضعه على سكة التقدم الإنساني.
 هذا الواقع يضع على كاهل المثقفين العراقيين مهمة أخرى غير تلك التي يضطلع بها “سياسيوهم” وهي القيام بدورهم الطليعي الاخلاقي والوطني في التحريض على البدء بعملية إعادة اكتشاف للذات هدفها ان تفضي الى عملية اعادة البناء لا الاندفاع العشوائي مجدداً نحو ممارسة اللعبة المدمرة التي اصابت الوطن بالمحن وأورثت ابناءه هذا الكم الهائل من المعاناة والحسرة والحيرة والكبت.
لذلك فإن المطلوب هو البحث من خلال الحوار الرصين عن أجوبة تتعلق بأزمة الثقافة العراقية بشقيها الداخلي والمنفى بعيداً عن ذلك الطابع المتوحش الذي تفرضه السياسات الفجة وأساليبها سواء منها تلك التي تلجأ الى العنف المادي والمعنوي لكتم الاصوات الاخرى أو تلك الضاربة في الغضب والتجريح واللعنة. إن أولى المسلمات هذا المسعى هو ضرورة الكف عن النظرات الأحادية ودعاوى احتكار الحقيقة والتخوين التي الحقت اشد الضرر بالثقافة العراقية والايمان بأن أي ثقافة وطنية هي بالتالي نتاج المشاركة والتفاعل بين الافكار، التي هي بدورها نتاج انصهار انماط من القيم والمعتقدات والتفسيرات العقلية والرموز الثقافية والاجتماعية، او ما يمكن اختزاله بالخبرة التاريخية التي يختزنها أي مجتمع أو خلفية قومية ودينية وطائفية متنوعة، وفي حال الواقع العراقي فإن أكثر ما ألحق الضرر بالثقافة هو النكران المتعسف لوجود هذا التنوع داخل الثقافة الواحدة وبخاصة ذلك الذي مارسته مراكز القوى السياسية والايديولوجية.
ثانياً، ان ما أصاب المجتع العراقي نتيجة التشوهات النبوية التي الحقتها الحصارات هو تعميق تناقضاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ما سيجعل بالحاجة الى اعادة دمج الافراد بالمجتع، وهي مهمة لن تنهض بها الا ثقافة وطنية تضع على عاتقها مهمة بناء تصورات للمستقبل تقوم على تضميد جروح الماضي وإزالة ندوبه والسمو على احقاده وضغائنه، إن مثل هذه الوظيفة لا بد ان تنطوي بصورة ضمنية على ضرورات حفز إبداء الندم كواجب اخلاقي، من قبل كل أولئك الذين تسببوا بهذه المعاناة الانسانية، كمقدمة لعملية مصالحة وطنية شاملة تقوم على مرتكزين، تحقيق العدالة والتسامح.
ثالثاً، ان المهمات المناطة بالثقافة العراقية تتجاوز المفهوم الذي ظل سائداً لدى أطراف الصراع السياسي كونها ساحة للجدل الحزبي المتعارض وأداة للتعبئة الجماهيرية، فعلى رغم ان النشاط الثقافي، في بعض أوجهه، وهو عمل سياسي إلا أن ذلك يجب ألا ينحط به، كما حصل دائماً لكي يجعل من الثقافة ميداناً آخر للصراع السياسي ويغرقها، كما يحصل الآن، في جدل الداخل – الخارج والوطني – الخائن، وغيرها من الثنائيات التي لا تخلط السياسي بالثقافي فقط، وانما تؤسس لاستمرارية التناقضات التي ينبغي دفنها مع ولادة عراق جديد.
رابعاً، ينبغي السعي منذ الآن الى النظر في اعتماد أدوات ثقافية جديدة واخراج الثقافة من أدراج المؤسسات الرسمية والحزبية التي حبست بها طويلاً ومن دائرة المزايدات ودفعها للهواء الطلق حيث تتوافر القدرة على الاكتشاف بعيداً من يقين وقوانين المؤسسات الخالية من اجواء الحرية والغفران والتسامح. وفي هذا الإطار فإن الاجيال الشابة من العراقيين وبخاصة الذين استطاعوا ان يتجاوزوا محن المنافي، اضافوا رصيداً قيماً للثقافة العراقية من خلال امكان مزجهم الخلاّق بين تراثهم الثقافي ومكتسباتهم الجديدة من النظام العقلي الذي نهلوا منه في منافيهم والذي سيمكنهم، حين تتوافر لهم الفرصة، من المساهمة، ليس فقط في عملية اعادة البناء المؤملة، ولكن في جذب ودفع روح التحديث والنهضة.
عموماً فإن السجال الجاري هو أحد مؤشرات استمرار أزمة الثقافة العراقية التي هي دورها انعكاس للأزمة الوطنية الشاملة ما يعني ان معترك العمل الأشمل سيظل هو العمل على إحداث التغيير من خلال استنباط حلول وتصورات للإصلاح وإعادة البناء، وهي مهمة ينبغي ألا تترك للسياسيين وحدهم، كما لا ينبغي احتكارها من قبل فريق واحد أو جماعة معينة، بل ينبغي ان تتم من خلال حوار مفتوح وجهد تعددي ومناقشات جادة.
 لقد مضى الى غير رجعة عهد احتكار الحقيقة واحتكار الوطن وأن الثقافة هي وحدها الميدان الأسمى لتبادل الأفكار واحتضان الابداع ودعم الابتكار الخلاّق وبناء الرصيد المعنوي لاعادة إعمار الوطن العراقي وفتح السبيل أمامه للانضمام الى قافلة الحضارة العالمية الماضية نحو المستقبل. إن على عاتق المثقفين العراقيين مهمة صعبة وهي تهيئة أنفسهم للمشاركة الايجابية في إعداد استراتيجية للنهوض من خراب الحصارات الى عصر جديد سيولد من مخاض الألم والضغائن والحرمان.
قد تدمغ مثل هذه الدعاوى أصحابها بالرومانسية أو بالحلم أو حتى بالسذاجة. ولكن التجربة التاريخية اثبتت مرة بعد أخرى أن العقل الواعي، الذي هو جوهر كل الثقافات الحية هو وحده الكفيل بدراسة منعطفات التاريخ الكبرى وفهم ظواهرها ومن ثم اختراق مساحات الصمت والتبشير بالحلول الصائبة لها. وفي الحال العراقية الراهنة فإن أكثر مستلزمات الوعي هو الشفافية وضرورة تملك الملكة النقدية التي تحتاجها عملية المساءلة والتصحيح التي يتطلبها الكشف عن المنعطف الآتي قبل ان يبدأ العراقيون نحته في صوان الزمن القاسي.
 إن من الخير للمثقفين العراقيين أن يبدأوا حواراً يمتد من المنافي البعيدة ومن تخوم الوطن حتى قلبه، غايته تفحص السبل التي تقودهم الى تبوء عملية الكشف هذه وتحفز الجدل العام بشأن الخيارات الممكنة، من أن يتركوا المعترك مرة أخرى للأدعياء الذين يملأونه بالضجيج، أو لأولئك المتربصين الذين يتوقعون دائماً ان يكونوا في المقدمة، ولا بأس من أن تكون البداية البحث عن جواب للسؤال الذي من المؤكد أن تثيره هذه المساهمة: وهل هذا ممكن في وضعنا الذي يتصف بمزيج من العبث واللاجدوى واليأس والانتظار.
*

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *