صفوة القول
                                            مختارات من اراء وقضايا  
                                                        عراق فوق الأنقاض
                                                                              صلاح النصراوي
نشرت في الشرق الاوسط في   22 مارس 2008
كانت محنة إنسانية ووطنية قاسية تلك التي واجهها العراقيون قبل خمس سنوات حيث كانت الإدارة الأمريكية تستعد لشن الحرب على بلادهم وحين واجههم السؤال المضني، أين سيقفون هذه المرة، خاصة أن الهدف كان جلياً، وهو إسقاط نظام صدام حسين. شخصياً، رأيت في الحرب فرصة وحيدة للتخلص من ذلك النظام الشمولي، الذي جثم على صدور العراقيين خمسة وثلاثين عاماً، آحال حياتهم خلالها إلى جحيم لا يطاق من القهر والعذابات والإذلال، نادراً ما تحملها شعب من شعوب العالم في النصف الآخير من القرن العشرين. كانت الحرب تبدو فرصة لنبذ كل ذلك الماضي التعيس، ومن ثم البدء من جديد في بناء عراق آخر، عراق قائم على أسس من الحرية والعدالة والإنصاف، ولم لا، ديمقراطي وحداثي، بل ونموذج مشع للدولة المدنية في المنطقة، أيضاً.
كان ذلك الاستنتاج، والأمل بالنسبة لي ولأي فرد عراقي شاركني فيه، في غاية البساطة والبراءة والإنسانية، ولم يكن بحاجة لكي نصل اليه، إلى أية حسابات سياسية أو استراتيجية أو حذلقات ايديولوجية أو تبريرات فلسفية. كما لم يكن ذلك الموقف متناقضاً أبداً، كما أرى حتى الآن، مع الروح الوطنية ومعاني الكرامة الإنسانية التي ظل نظام صدام ينتهكها حتى اللحظات الأخيرة من عمره، حين وضع العراقيين جميعاً أمام محنة الاختيار القاسي، بين الدفاع عنه وعن نظام حكم العائلة والعشيرة الذي أقامه، وبين الوقوع في ذل الاحتلال وقهره، كثمن للتخلص منه.
فالأمر كان بكل بساطة، حلما إنسانيا متواضعا ومشروعا تطلع فيه العراقيون إلى العالم ليمد يده لإنقاذهم من ذلك الجحيم الأبدي، الذي عاشوا فيه، بدون أية بارقة أمل في أن يعمل نظام صدام على إصلاح نفسه، أو أن يتمكن العراقيون أنفسهم ذات يوم من أن يتخلصوا منه بإيديهم، ومن خلال مشروع وطني للتغير. كان ذلك الاستنتاج هو بمثابة انتظار لاستجابة القدر، ولذلك النداء الداخلي لدى كل عراقي، وحمله لإرادة الحياة، وحلمه الأزلي، بكل ما يمكن ان يجلي الليالي الظلماء عن بلاده، ويكسر قيود الذل والاستعباد التي كبلها بهم صدام ونظامه.
كان الأفق مسدوداً أمام أية عملية تغير ذاتي، أو إصلاح داخلي، لأن النظام كان يدرك أن بنيته الأمنية والسياسية والايديولوجية، القائمة على الكبت والقمع وعلى عبادة الشخصية، وصنمها الآبدي صدام، ستكون معرضة لخطر الانهيار مع أول بادرة انفتاح، مهما كانت ضيئلة. فلم تكن هناك أية قوة معارضة سياسية داخلية حقيقية بإمكانها أن تقف أمام النظام وتجهر بصوتها بأي مطلب سياسي، أو حتى إنساني، بعد أن عمل النظام على التصفية المادية والمعنوية للأحزاب والجماعات السياسية.
ولم تكن المعارضة في الخارج بحال أفضل، فقد تحولت أغلبها بسبب هيمنة الجماعات ذاتها التي عجزت عن التصدي لنظام البعث داخليا، وتفضيلها خيار التحول إلى ضحية على خيار البقاء والصمود والمقاومة، وبسبب العقلية التسلطية التي تديرها أيضا، إلى مشروعات فردية أو عائلية ودكاكين تشرف عليها أجهزة مخابرات الدول التي تستضيفها، وتوجهها حسب غاياتها ومصالحها.
اما التطلع لأي عون عربي للتخلص من صدام ومساعدة العراقيين على إقامة نظام ديمقراطي، فكان مجرد سراب وعبث، ليس فقط لأن فاقد الشيء لا يعطيه، بل لأن النظام العربي ذاته قائمُ على تضامن دوله وحكوماته وزعاماته على قاعدة أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، طالما أنه لا يهدد بقاءك، أو، على العكس، أن زواله سيهدد ذلك البقاء.
كان بقاء نظام صدام بالرغم من الكوارث التي ألحقها بالعراق يعني انتصاره على العراقيين وعلى رغبتهم في الحياة الحرة الكريمة، واستمرار ذلهم وقهرهم وقتلهم سنوات طويلة اخرى، مع احتمال شبه أكيد، بان ينتقل الحكم بعد ذلك من صدام إلى أحد ولديه عدي أو قصي، أي بمعنى آخر أن يبقى العراقيون عبيداً أذلاء لذرية الطاغية، ومن أشباهه من السفاحين والمغامرين عديمي الإحساس والضمير، واحداً وراء آخر، بدون أي أفق بانتهاء هذه السلسلة من الطغاة التي كانت تعمل وتخطط للبقاء إلى ما لا نهاية.
ولم تكشف تلك المرحلة عن أزمة وطنية شاملة والمتمثلة بحالة إنسداد في الأفق السياسي للنظام فقط، بل أنها كشفت عن العمق الذي وصلت إليه الأزمة البنيوية للدولة ذاتها من خلال وصولها إلى أقصى حالات التماهي مع النظام، بل مع الفرد الحاكم ذاته. ومع ارتباط الأزمة الداخلية بالتوترات والصراعات مع المجتمع الدولي، بسبب إرث المغامرات والحروب التي خاضها النظام مع جيرانه، فقد فقدت الدولة والمجتمع في العراق أية حصانة وقدرة على الصمود بوجه التحديات الداخلية والخارجية معا، الامر الذي كان سيسهل بالنهاية سقوط النظام بالحرب التي كانت على الأبواب.
غير أن الأمر لم يكن كله أحلاما وآمالا، بل كانت هناك أيضا شكوك وهواجس ومخاوف تحوم وتدفع للظن بان الأمر قد لا ينتهي بما يتمناه العراقيون وكذلك خشية حقيقية من أن تشهد لحظات ما بعد ولادة عراق جديد محاولات لوأده، أو حتى أن يكون الحمل نفسه كاذبا. كانت الشكوك نحو الأمريكان نابعة، أولاً، من أن امريكا ليست جمعية خيرية جاءت لمساعدة العراقيين بتحريرهم من صدام، ولا بد أن لها مصالح وأهدافا قد تكون مناقضة للحلم العراقي. وكان واضحاً، ثانياً، مما كشف عنه من نقاب عن الخطط والاستراتيجية الأمريكية وأسلوب تنفيذها، أن الإدارة الامريكية عازمة على خوض مغامرة كبيرة، بدون أي استعداد جدي لإعادة بناء الدولة، بل بدون فهم حقيقي للواقع العراقي.
ثم كانت هناك شكوك في قوى المعارضة العراقية التي استجلبتها الإدارة الأمريكية لتبرير الاحتلال والمشاركة في إدارته. ففي غياب معارضة سياسية تمثيلية حقيقية على الأرض، يمكنها أن تكون بديلا مقبولاً، أو حتى معقولاً، في فترة انتقالية يجري خلالها بناء الحركات السياسية المعبرة عن الطبقات والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغير ومن ثم الإعداد للمرحلة الدائمة، كانت تلك القوى بكل ماضيها وخيارتها وأجنداتها، وخاصة الطائفية والفئوية، هي الوحيدة التي بإمكانها أن تتصدر الساحة بوجه تيار وطني عام لم يتسن له النهوض بعد.
مقابل ذلك كانت الشكوك تحوم أيضا حول رد الفعل المتوقع للدول الإقليمية، وخاصة المجاورة للعراق، من عملية التغيير القادمة، وهي التي كانت تستشعر مدى الخطر الكامن في ذلك على أمنها واستقرارها، بل على وجود أنظمتها ذاتها. فحين أصبح واضحا أن الإدارة الأمريكية اتخذت قرار الحرب لم يكن أمام هذه الدول إلا القبول به أيضا، سواء على مضض، أو كرها، غير أن السؤال ظل، هو كيف كانت ستتعامل هذه الدول مع نتائج الحرب المتوقعة، مع كل ما تحمله من توقعات سيئة وكارثية على عموم المنطقة الهشة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والتحديات التي سيفرزها التغير الجيوسياسي والجيواستراتيجي الذي سيحصل.
في كتابي الأخير «فوق الانقاض، نهاية المشروع الأمريكي في العراق» الذي يصدر متزامنا مع الذكرى الخامسة للحرب حاولت أن أعود إلى حكاية ذلك الحلم المليء بالبراءة وكيف انه سرعان ما تحول إلى كابوس مرعب، عبر المرور بالمحطات التي قطعها مشروع الحرب وما آل اليه مشروع التغير في العراق، الذي بشرت به إدارة بوش إلى مجرد غزو واحتلال قميئين وأطلال مجتمع ودولة يعشش في خرائبها الإرهاب والعنف والفساد وتفوح من زراريبها رائحة الدم وعفن التعصب الطائفي والكراهية. النقطة الجوهرية التي يحاول الكتاب تركيز الأنظار عليها، هي كيف أن العراقيين الذين ظلوا يتشبثون بالأمل للخلاص من واقعهم المآساوي وقعوا ضحية لعملية خداع كبرى، كانت نتاج مزيج من الحماقة وغطرسة القوة والأحلام الإمبراطورية، والنبوءات الخرافية، إضافة إلى المؤامرات الدنيئة، والصفقات الخسيسة، ورغبات دفينة بالثأر، وطموحات مرضية، رافقها تواطؤ مخزٍ وجبن لا أخلاقي نادر وصمت عاجز، حيث اجتمع كل ذلك ليخلق مأساة أكثر رعبا مما أنتجه القهر الصدامي. ليس للعراقيين، وانا واحد منهم، ان يعتذروا لأنفسهم الآن عن تلك الأحلام البريئة، التي تحولت إلى أوهام، لمجرد أنهم ظنوا في ساعة المحنة تلك أن هناك في هذا العالم بقية من رحمة وتعاطف وضمير وأن هناك من سيساعدهم من أبناء جلدتهم على الخروج من تلك الدائرة الشاذة من تاريخهم الحديث، بل عليهم وهم يمرون بهذه الأيام الحالكة من تاريخهم أن يقفوا ويتمعنوا في درس التجربة ويخلصوا إلى أنهم وحدهم القادرون على الخروج من نفق الأزمة الوطنية المريرة، وانهم محكومون بالعيش معا، وأن الفراق بينهم ليس قدراً محتماً، إذا ما توفرت الفرصة لإعادة اكتشاف ماضيهم المشترك وتصويب أخطاء حاضرهم والانشغال ببناء مستقبلهم.
قد لا يصبح ذلك ممكنا بدون ان تقف الأطراف الأمريكية والعراقية وغيرهم من الذين شاركوا في قتل الحلم وصنع الكارثة العراقية أمام محاكم قانونية، او حتى اعتبارية، لكي ينالوا جزاءهم العادل، مثلما ناله صدام نفسه، عما اقترفت أياديهم وأفكارهم الشريرة بحق الملايين من الأبرياء العراقيين. إن العبر من تجربة صدام لم تتجسد في تلك الزنزانة القميئة التي شهدت نهايته، بل في التراب الذي سيظل التاريخ يهيله على تجربته البشعة، وهي عبر لا يبدو أن الكثيرين، سواء من أعدائه وخصومه الذين ظنوا أنهم ورثته، أو من الآخرين الذين أوغلوا أياديهم، كل لحساباته، في دم العراقيين، وخراب بلدهم، قد تعلموها.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *